المدن العربية القديمة مدن رأسمالية كثيرة الحمّامات
مدينة عمان نموذجا
في الوقت الذي يهتم فيه العالم بالمدينة كفضاء للحياة وللإبداع أحيانا، من خلال التفكير المستمر في جعلها فضاء مرنا يستبق حاجيات الإنسان بتعددها، تبدو الكثير من المدن العربية القديمة صادمة رغم أن تاريخها غني وماضيها شهد ذروة الحراك الحضاري، كما أنها تمثل تجسيدا للبنى الاجتماعية والفكرية والفنية العربية، وهو ما يبدو مهملا ويحتاج إلى الدرس.
عمّان– تحفل المدن العربية القديمة بتاريخ عريق لم يقع إلى الآن تثمينه أو البناء عليه، ويعود ذلك بالأساس إلى الجهل بماضي هذه المدن وطرق تشكلها الاجتماعية.
وفي إطار التعريف بتاريخ المدن في الحضارة العربية، يرصد عالم الاجتماع مجدالدين خمش في كتابه “سوسيولوجيا المدن في الحضارة العربية الإسلامية: طرق التجارة الصحراوية والعلاقات مع أوروبا” الأدبيات حول المدن في الحضارة العربية الإسلامية، التي تُبرز تركيز الجغرافيين والبلدانيين والمؤرخين العرب والمسلمين في وصفهم المدينة على عنصرَي المساحة والحجم، وكثرة الجماعات والفئات الاجتماعية والمهن، والرخاء المعيشي للسكان، لإضفاء طابع الأهمية على المدينة.
البناء الإجتماعي
يتأكّد دور الجوانب الاجتماعية والثقافية في بناء المدن العربية القديمة، وهو ما يبرزه يرى الكاتب العراقي صباح ناهي الذي يرى أن المدن العتيقة ليست متساوية الأضلاع أو متناظرة الأشكال، كأن من رسمها معماريون أفذاذ بالمسطرة. موضحا أن المدن العتيقة أعقد من ذلك بكثير في امتداداتها، وتزاحمها وتنويعاتها وضيق شوارعها لكنها بسعة تاريخها الطويل فهي تستطيل حينا وتعرض أحيانا تمشي حيث حياة الأفراد والمجموعات، تسير في طرقاتها نحو امتداد الأنهر وسعة البحار وتناغم الأودية، ولا تعرف التنميط والاعتدال في الشكل والمساحات ولا تبتدئ من حيث انتهى الآخرون، كما تنحو المدن الجديدة المنتظمة في شوارعها وبيوتاتها ومولاتها، ومسارحها وعروضها السينمائية، وتقنيناتها التي خضعت لخرائط دكتاتورية أسيادها المعماريين، ولبّت حاجات مهندسيها المدنيين.
ويتابع ناهي “لم تألف المدن العتيقة، شوارعا واسعة ولم تعتد على الأنفاق المنتظمة بالدورات الكبيرة، وسكانها يكادون يعرفون بعضهم البعض، ولا توجد خصوصية مطلقة لحياة الناس الذين تنصهر قيمهم في الحارات ويتحولون رويدا رويدا إلى أسرة كبيرة يتنادى البعض بأسماء الأمهات ويفخر الأحفاد بأنهم أبناء سيدات صنعن تواريخ الشوارع التي ضمتهم”.
ويوضح خمش في كتابه، الذي صدر مؤخرا في طبعة مزيدة ومنقحة عن دار الصايل للنشر، أن الأدبيات التي تناولت المدينة في ذلك الزمن اهتمت بوجود المسجد الجامع، حيث تقام صلاة الجمعة وصلاة العيدين، ووجود العلماء والقضاة، والسوق التجاري، والتحصينات.
ويعاين الباحث ربطَ ابن خلدون بين نشوء المدن في العالم الإسلامي وترسيخ الحضارة والعمران، حيث تُوفّر المدينة لساكنيها مستوى مناسبًا من رغد العيش والأمن والاستقرار، لتحميهم من المضار والأخطار، وتُيسّر لهم العديد من المنافع الحياتية والروحية.
ويشير خمش إلى تأكيد ألبرت حوراني على الوظيفة التجارية للمدن الإسلامية، بوصفها مراكز توقف للقوافل التجارية، خصوصًا قيامها بدورٍ نشطٍ في استقبال البضائع والسلع ونقلها.
ويوضح أن هناك من ربط بين المدينة والسلطة، والقانون والقضاء، وفرّق بين الأمصار، أي المدن التي أنشأها العرب، مثل البصرة والكوفة (وهما أول مدينتين أنشأهما العرب خارج الجزيرة العربية، إذ أنشئت البصرة عام 15 للهجرة، والكوفة عام 17 للهجرة)، وواسط والفسطاط لدعم الفتوحات العسكرية وإسنادها، والمدن القديمة الرومانية أو اليونانية التي أعاد العرب إنشاءها وتطويرها مثل دمشق وحلب
ونشرت العلوم والتقنيات العربية فيها، لاسيما في المجالات الطبية والعسكرية، ليشكّل ذلك عاملًا أساسيًا في نهضة أوروبا علميًّا وعسكريًّا وصناعيًّا.
يذكر أن الكتاب يتضمن ستة فصول: الأول حول المدن في الحضارة العربية الإسلامية.. تعريفها وخططها، والثاني حول التحوّلات الحضرية في العالم العربي الإسلامي، والثالث حول التنظيم الاجتماعي للمدينة العربية الإسلامية ومكوّناته، والرابع حول تأثير المدن العربية الإسلامية في النهضة الأوروبية الحديثة، والخامس حول تحديث المدن العربية الإسلامية على النمط الأوروبي، والسادس خاتمة الكتاب
