معايير قضائية متفاوتة؟

معايير قضائية متفاوتة؟

مرسال الترس

موقع “الجريدة”

منذ الاستقلال واللبنانيون يتندرون ويحلمون بأن يكون لديهم قضاء مستقل، كما هي الحال في الدول المتحضرة، فيما كان المسؤولون والسياسيون الذين يمسكون بتلابيب كل شاردة وواردة في لبنان، يضحكون في سرهم، وأحياناً علناً، على هذه “المقولة السخيفة” التي لن تجد مكاناً لها في هذه البلاد.

فمنذ سنوات وسنوات يجري الحديث في لبنان عن فصل السلطات، وعن حرية القضاء، إلى أن تم التداول هذه السنة بأن مجلس القضاء الأعلى هو الذي يعمل على توزيع القضاة على المحاكم ودوائر التحقيق.. فتوسم الجميع خيراً بما سيستجد.

ولكن، خلال الأيام القليلة الماضية حصلت واقعتين قريبتين في المضمون، أظهرتا أن هناك تفاوتاً في تطبيق بعض المعايير العدلية بين محكمة وأخرى:

في إحدى محاكم الشمال، وأثناء مشاركة أحد الاشخاص بمزاد علني لشراء عقار، حيث كانت قيمة بدل الطرح 70 ألف دولار أميركي التي أحضرها نقداً، سأله القاضي من أين جاء بالمبلغ، على خلفية أن أي مبلغ يفوق العشرة الآف دولار يخضع لقانون تبييض الأموال، فأجاب الشخص المعني الذي كغيره من اللبنانيين لم يعد يضع أمواله في المصارف: “من المنزل”. فما كان من القاضي إلاّ أن أمر بإيداع المبلغ في الصندوق الحديدي للمحكمة، وأحال الموضوع الى النيابة العامة للتحقيق والتحري عن مصدر الأموال!

وبعد فترة وجيزة وفي إحدى محاكم بيروت جرى تخفيض قيمة الكفالة لإخلاء سبيل حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة من عشرين مليون دولار أميركي نقداً وعدة ملايين لبنانية، إلى أربعة عشر مليون دولار فجرى تسديد المبلغ في اليوم التالي، وخرج سلامة من مستشفى بحنس كسجن استثنائي بانتظار المحكمة. وجرى الحديث أن دائرة المحكمة إنشغلت بتعداد المبلغ لساعات…

والسؤال الذي تم تداوله بين العديد من الذين تناهت اليهم الواقعة: هل تم اعتماد نفس المعايير بين المحكمتين؟

وبين هذه وتلك، عمّم وزير العدل عادل نصار على كتّاب العدل بوجوب التحري عن مصادر الأموال التي يُطلب منهم “مباركتها”… فهل يمكن أن تتحوّل أموال أولئك الاشخاص إلى دائرة تحري؟ وهو ما عرضّه للعديد من الملاحظات الشكلية على تعميمه، ولا سيما لجهة المشروعية الخارجية!

وفي هذا السياق أذكر حادثة حصلت معي عندما كنت في بداياتي الصحفية قبل خمسة عقود، وأنا مندفع للوصول إلى تحقيق وطن تسود فيه العدالة ويطبق فيه القانون بالسواسية على الجميع، فأثناء زيارة وزير العدل لقصر عدل عاصمة الشمال، وبعد اجتماع مع كبار القضاة في المحافظة، عقد مؤتمراً صحفياً في مكتب الرئيس الأول في الشمال، فبادرته بسؤال اعتبرته بديهياً وقلت: “متى سيتولى مجلس القضاء الأعلى دون سواه اختيار رؤساء المحاكم وقضاة التحقيق وغيرهم؟ فجال بنظره على الحضور من القضاة ونظر إلّي مبتسماً بدون إجابة. فاعتقدت حينها إنني أخطأت التقدير بطرح سؤال من هذا القبيل!

أمام أزمة مصارف لا أحد يُدرك سقفها، واستقلالية قضاء مفتوحة على الاجتهادات، ومعايير قوانين متفاوتة بين محكمة وأختها، سيمارس اللبنانيون بالتأكيد مشروع خنق أي إجراءات تنموية، وفي طليعتها حركة البيع والشراء، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!

شارك المقال

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *