“اقتاد عناصر الأمن سلامة الذي كان لا يزال صلباً ومحافظاً على هدوئه. ولكن ما إن وُضِع مكبّلاً في سيارة قوى الأمن حتى انهار بالبكاء.( الاخبار ٥/٩/٢٠٢٤)” .
قد يظنُّ ايّ بعيدٍ عن لبنان عندما يطالع ما تقدم للوهلة الاولى ، انه امام مقطع قصير من مسلسل درامي ينكبُّ عليه روائيُّ ما ، حول شخصيةٍ مظلومة لا يجد مفرّاً من التعاطف معها في أضعف التوقعات ، فضلاً عن ان ما تقدّم قد يدفعنا غداً لمطالبة اساتذة التحليل النفسي في لبنان لتقييم الصورة “الاشكالية” التي ظهر بها حاكم مصرف لبنان السابق على الرأي العام وهو المتستر ب”الجاكيت” ليخفي يديه المكبلتين بالحديد وهذا أقصى ما قدمه له المدّعي العام التمييزي من خدمة إنسانية مخففاً من ظهوره البائس وهو الذي حتى تاريخ توقيفه لم تذرف له دمعة او طرفة عين او اهتزت له ذرة عطف على ملايين المودعين الذين جعل ايامهم جحيماً لخمس سنوات خلت وبقي يضحك في دواخله على سذاجتهم لثلاثين عاماً بعد ان صدّقوا ان الليرة اللبنانية بخير وجعل من أحلامهم كوابيس شقاء لا يعلم غير الخالق المدى الذي سيشفى منها من سيبقى مصدّقاً وعود الحصول على وديعته ان لم يودّع الدنيا قبلها .
حتماً ، ومع الايام القليلة القادمة ، ستتحول قضية حاكم مصرف لبنان السابق إلى قضية رأي عام بكل ما للكلمة من معنى وستُشحَذ هِمَم كل المتضررين من سياساته المالية ويُواجَه بالدعاوى ضده من قِبَل مودعين وحقوقيين ومجتمعُّ لبناني عن بكرة ابيه يعتبر ان له حقوقاً مع هذا الشخص وينبغي التوسُّع في التحقيقات معه لمعرفة اين تبخرت المليارات وكيف هُرِّبَت إلى الخارج ومن كان يحميه ويمدّه بحبل المخالفات التي تلتف اليوم حول رقبته ليجد نفسه اليوم وحيداً وقد تخلّى عنه الجميع وليس امامه سوى ان يقلب الطاولة على الجميع ويواجه اللبنانيين بالحقائق ولماذا انفجر بالبكاء عندما خرج مكبّلاً بالأصفاد ، واين هم الذين وضع لهم الهندسات المالية وأقرضهم باقل الفوائد الرمزية وأثروا بفضل كرمه الزائد عليهم ، هل هو الخوف الذي جعلهم يتبرأون ويغسلون اياديهم منه ، وماذا لو حكى وأفرغ كل ما يحتفظ به من حقائق ومعلومات ، يُقال انها مخفية في مكانٍ آمن ولن يشهرها الا في اللحظة التي يجد نفسه وحيداً ومعزولاً في الدائرة الجهنمية التي ستفرض عليه الاستعانة بمقولة” عليي وعلى اعدائي يا رب”، وعلى لسانه هذه المرة ، لا كما فعل” شمشون الجبار” عندما هدم المعبد على رأسه ورأس ثلاثة آلاف ممن شهدوا تعذيبه ولم يحرّكوا ساكناً للدفاع عنه ، كما تحدثنا احدى أساطير البطولات والخيانة التي نعيش إسقاطاتها هذه الايام وصار علينا ان نصدّقها .
ثمة من يرى ان الحاكم السابق يدفع أثمان رفضه تطبيق قانون قيصر الاميركي وعقوباته السياسية ضد النظام السوري ،وهؤلاء بذلك يعاكسون ما كان عليه موقف وزارة الخزانة الاميركية عندما اعتبرت ان المس به خطُّ احمر وجاراها بذلك مرجعيات حكومية ونيابية كبرى ،
وثمة من يرى ان السلطة اللبنانية تعيش هاجس الطلب من دول أوروبية معينة تسليمها اياه بتهم متعددة فاستبقت توقيفه ومحاكمته في لبنان حمايةً له سواء بالتوقيف او الاعتقال ، إلى ذلك هنالك من يقول ان صحوة ضمير القضاء اللبناني هي الدافع الاساس فيما جرى وسيجري ، فيما ترى وجهة نظر اخرى ان كل من استفاد منه تخلوا عنه اليوم وتركوه وحيداً،
ومع أرجحية كل بند مما تقدم وان ما حصل كان بمثابة الكمين له من باب استدراجه كمستمع ، لا مدعى عليه ، يبقى ان الحاكم قد وقع في آتون منظومة الفساد وأذرعها المتعددة بتحويله الى كبش فداء في سبيل ديمومة مصالحها وفسادها .
انها حقاً لمأساة مصيرية تطوّق الحاكم السابق اليوم وهو في القفص مختلياً مع نفسه ، يراجع شريطاً زمنياً استهلك ثلاثين عاماً من عمر الجمهورية اللبنانية وحياة الشعب اللبناني وانزل الجميع من حالة “سويسرا الشرق” إلى الدولة العاجزة الفاشلة المتسولّة على ابواب القريب والبعيد ، وشعباً بملايينه في الداخل يرزح تحت طاحونة العيش فلم يعد في أولوياته سوى ربطة الخبز ان تيسرت ، وقسط المدرسة السنوي عندما تغطيه الدول المانحة ولا يتمنى سوى الموت خوفاً من المرض عندما لا يجد مستشفىً يستقبله او جمعيةً خيرية ترأف به ولولا ما يضخُّه بعض المغتربين في الخارج من مساعدات مالية إلى ذويهم لانتصرت مشهدية غيبوبة الموت على معاني الحياة وكأن القيامة حاصلةُّ غداً .
وبانتظار ان يقول القضاء كلمته بعد ان اصدر قاضي التحقيق الاول مذكرةً وجاهية باعتقاله بعد استجوابه ظهيرة يوم الاثنين ٩/٩ ، لا مناص من توفير كامل الحماية الامنية للحاكم السابق والوقوف بجدية امام ما صرح به مؤخراً وزير داخلية سابق ( العميد مروان شربل على شاشة الجديد صباح ٩/٩) من ان ” هناك خطر على حياة رياض سلامة وعليه ان يقول الحقيقة وان لا يقبل ان يكون كبش محرقة” ، وهذا يقتضي إبعاد كل تدخل سياسي او حزبي في عمل القضاء الذي لم نزل نراهن على قضاة شرفاء يعملون بضميرهم ، لا بما يُملى عليهم من هذه المرجعية وتلك ،
والى ان يتظهّر الخيط الأبيض من الخيط الأسود في قضية العصر التي يعيشها لبنان ، سيعود الأمر للتاريخ إنصافاً ام ادانةً للحاكم السابق وما إذا ارتضى ان يكون “كبش المحرقة” لمن يضحُّون به اليوم على مذبح فسادهم ، سيكتب الرواة وتتعدد الحكايات ، والخوف كل الخوف ، ان تتلاشى الحقيقة فتضيع ونجد ان فصول الرواية الحقيقية لم تكتمل بعد .