د. جهاد نعمان “حكمة وحكيم”!
انشأت المقالات في كل الدوريات اللبنانية، ولكنني لم أقع، فيها على افضل وارقى من مجلة “الحكمة” برئاسة تحرير الصديق الحكيم الدكتور إميل كبا.
توقف صدور معظم هذه الدوريات ومنها تلك المجلة التي عايشتها معايشة فكرية ووجودية على السواء، ولا اعلم اسباب توقفها عن الصدور. ولكنها مجلة ترجمت توجهات أبناء المشرق العربي وتطلعات اجيالنا إلى بناء صرح ثقافي شامخ يضطلع بالدور الرائد لامتنا اللبنانية في تصديها للتخلف وجعل فكرنا الإنساني المتنامي مصدر الهام وابداع للطبقة المثقفة يساعدها على رسم صورة المستقبل والغد المشرق.
حققت المجلة، بهمة الدكتور كبا، قفزات نوعية، شملت جوانب الحياة الثقافية كلها، حتى غدت عنوان التقدم والازدهار، والصورة الحية المعبرة عن وجدان امتنا وضميرها.
الدكتور كبا حاول ان يجعل العمل في ميدان الثقافة، ليس مجرد نشاط لاكتساب شهرة شخصية او موقعا اجتماعياً معينا. نظر إلى الثقافة لا كترف ، بل كضرورة لازبة. انها اساس النهوض الاجتماعي، وعامل بارز في التنمية. بحث عن جنود معرفة في ساحة الفكر، بعيدا عن مناخات اللهو والزينة او طلب المجد والشهرة. فالثقافة لديه واجب وطني اجتماعي من الدرجة الاولى. بحث كبا عن المثقفين الثقات وأخذ بيدهم وتعهدهم ورعاهم . شذب مقالاتهم وعنونها. وأقام الدليل على ان حضارتنا ،منذ عهد الأسلاف ،حضارة منفتحة فاعلة متفاعلة.
أشار الدكتور الحكيم إلى عقد المهرجانات والندوات والمحاضرات والأفلام والمعارض والآثار ، وفي مجلته دلالات إلى حتمية التلاقح وتواصل التجارب والخبرات . استورد في حكمة تناسب “حكمته” ثقافة رفيعة أصيلة واستشرافية على السواء. تعميمه للثقافة التي لا تقرأ في كتاب واحد، فيه مراعاة للعمق والسعة، للانتشار الأفقي والتجذر العمودي. مقالات مجلته الحكيمة في عهدته الحكيمة، متعددة، متنوعة، نوعية، حية، غنية، راعى فيها ان يبلغ الجمهور الواسع، كما راعى فيها ان تشبع حاجة المثقفين من كل الفئات، وهم يتجذرون في التراث. وبقدر ما اطل على الحداثة، حرص على نشر التأليف الجيد، والترجمة المنتقاة، وجميع الكتب المشار اليها في مجلته تتناول معطيات الفكر التراثي المعاصر. شاء حكيمنا ان يبني الصلة بين ما كان وما هو كائن، وفي حرصه على الجديد، مد الصلة إلى ما سوف يكون، وبهذا جمع بين الأصالة والحداثة، ايماناً منه بضرورة التواصل والتفاعل مع الأدب العالمي. علينا في عرفه ان نغدو على قناعة تامة بان ثمة في الدنيا من حولنا.
ادرك أهمية الحرية الفكرية، وأولاها كبير الاهتمام والعناية.
الدكتور كبا، لا يكبو، على حد علمي، إلا في ما ندر، في حلبة اللغة الفصحى. يطالع ويدقق بل يعيش لغته. وقد تجلى، كما اعلم، فارسا من فرسان ميدانها، وحام عنيد من حماتها. وفي غمر من الأخطاء اللغوية التي تتفجر من افواه مذيعي التلفاز وزواره ومعظم معتلي المنابر الاستعراضية، وتتدفق خصوصا من التعريب الرابض في اطمئنان، تحت الشرط (ضم الشين والراء) الأعجمية، فالأخطاء فاضت ومارت حتى بلغت الزبى، فدكت السدود والحدود، وجلها من العيار الثقيل المدوي…هنا ينبري استاذنا الحكيم ليصوب تصويبا مباشرا ما اعوج من اخطاء لا تغتفر ولا من يسأل او يجيب. وصديقنا الحبيب، حاول في مجلته المحتجبة ومؤلفاته الوافرة وأحاديثه الاجتماعية، ان يعوض قليلا من “كبوات” معنيين غير معنيين بالعقل اللبناني، فتجلى عرينه هنا وثمة خير معوان بإزاء عدوان يتنامى بسبب من رقدتهم رقدة أهل الكهف! فالشكر له!
د. جهاد نعمان
استاذ في المعهد العالي للدكتوراه