ليس تخويفاً ولا رغبة: ما تتعرّض له الأقليات حقيقة لا سيناريو!

ليس تخويفاً ولا رغبة: ما تتعرّض له الأقليات حقيقة لا سيناريو!

🧾 LaBamba News

أثار مقالي في «الجمهورية» الأربعاء الفائت تحت عنوان: «العراق، سوريا، لبنان: خريطة دولية لأحادية صارخة»، إهتمام كثير من القرّاء والمتابعين والباحثين والإعلاميِّين. وتلقّيتُ تعليقات مكتوبة واتصالات هاتفية من مرجعيات روحية عليا، أثنت على مضمون المقال، واعتبرته عاكساً لواقع الحال بلا تجميل أو «رتوش»، فيما تلقّيتُ تعليقات واتصالات من مجموعة متابعين، تأخذ عليّ المبالغة في تصوير الواقع، وإخافة الناس، وسَدّ أبواب الأمل في وجوههم.

والحقيقة أنّي أضأتُ على هذا الموضوع لأنّه قائم ولا يستطيع أحد – مهما حاول وسعى – أن يمحوه من الذاكرة الجماعية، خصوصاً إذا كان مركوزاً في التاريخ القديم والحديث. فالأقليات في زمننا الراهن لم تكن يوماً طارئة على الشرق الأوسط ولا مستوردة إليه، ووجودها يرقى إلى قرون بعيدة. وعلى رغم من أنّها بلغاتها القومية والطقسية وموروثها الثقافي رفدت العروبة بأسباب الحضارة، وكانت رافعة لتجدّدها وتطوّرها واتخاذها بُعداً ينطلق من الإسلام ويتجاوزه في آنٍ لتشكيل هويّتها التي تؤلّف لغة الضاد عمودها الأساس، فإنّها لم تتحرّر من مخاوفها، لأنّ التعاطي معها كان على أساس ديني، وعددي، لا على أساس الدور الذي تضطلع به في بلدانها ومجتمعاتها.

وفي العصور الإسلامية الغابرة، وخصوصاً في المراحل التي كانت ترتسم فيها ملامح الدول، كانت الأقليات المادة الرمادية (LA MATIÉRE GRISE) لهذه الدول، فمن بينها الفلاسفة والتراجمة والأطباء، بالإضافة إلى اللغويِّين والنُحّاة والفلكيِّين والمحاسبين الذين تُعهَد إليهم بيوت المال، وهي بالتالي لا يمكن أن تكون إلّا في صُلب نسيج هذه المنطقة، والشاهد الأول على تحوّلاتها. لكنّها دفعت ضريبة التعصّب، واستخدام القيّمين على دول المنطقة في حقبات الأمبراطوريات والممالك والإمارات الكبرى والإمارات المحلية، أساليب الضغط والتشكيك والمضايقة، والعمل على تهميشها بذريعة الحذر والتشكيك بولائها الوطني. فتولّد شعور لدى أبناء هذه الأقليات بأنّهم مواطنون من درجة ثانية. وإذا أجرينا قراءة واقعية للنزاعات والحروب التي حصلت منذ العام 1840 حتى اليوم، لتبيّن لنا على «الورقة والقلم» أنّ الأقليات الدينية والإتنية كانت الضحية الأولى، ومن بينها مَن تعرّض في الحرب الكونية الأولى إلى محاولة الإبادة تجويعاً، على غرار ما يحصل الآن في غزة.

إنّ نمو حركات التطرّف وامتدادها في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق، لم يكن مفاجئاً في ظل التطوّرات التي حصلت في العالم بعد 11 أيلول 2001، وهي ازدادت حضوراً وامتداداً على إثر تفكيك بنية الدولة بكاملها بذريعة «إجتثاث البعث»، لتصبح بلاد الرافدَين سداحاً مدّاحاً أمام الإرهاب والفوضى، وسوريا اليوم هي أمام مشهد مماثل، ولو أنّ الحدّ الأدنى من هيكلية الدولة لا يزال قائماً، على رغم من إقدام إسرائيل على تدمير جيشها بنسبة 90% على إثر استهداف بنيته العسكرية والقضاء على ترسانته الجوية، البحرية، البرية، ومراكز الأبحاث ومعامل إنتاج الأسلحة، واغتيال عدد من العلماء على غرار ما حصل في العراق، وحصل ويحصل مع علماء إيران.

وإزاء هذا الواقع، نشطت طروحات التقسيم والفدرلة واللامركزية الموسعة كخيار لسوريا الجديدة، خصوصاً بعد أحداث الساحل والسويداء. وهناك إمكانية لتحقيق أي من هذه الطروحات على أرض الواقع، لأنّ العلويِّين والدروز يعيشون في حيِّز جغرافي محدّد ومعروف، يمكنهم من إقامة دويلة تحظى بحمايات خارجية، لكنّ ذلك لا يسري على مسيحيِّي سوريا الذين ينتشرون على امتداد خريطة بلادهم، ويندمجون في مجتمعها ويتفاعلون إيجاباً مع مواطنيهم، وهذا ما يُضاعف خوفهم من الآتي وملامح الغد الغامض وما يمكن أن يحمل إليهم. وهذه الخشية هي التي دفعت برؤساء الطوائف المسيحية في هذا البلد إلى إجراء إتصالات مكثفة بدوائر القرار في العالم، والفاتيكان، والدول المؤثرة، من دون أن تحظى بجواب واضح وحاسم، بإستثناء تدخّلات لدى القيادة الانتقالية في دمشق، تحذّرها من المساس بأمن المسيحيِّين وعدم التعرّض لهم، وهذا الأمر أراحهم بعض الشيء، لكنّه لم ينجح في إزالة مخاوفهم، كَون الوعود قابلة للتبدّل، وأصحابها لا يمسكون جيداً بالأرض والخروقات واردة في أي لحظة. ولذلك، فإنّ المسيحيِّين وسائر الأقليات ما زالوا في دائرة القلق والترقّب، وسمة الحذر المائل إلى التشاؤم يغلب عليهم. وهم في انتظار العهود الدولية والعربية المقطوعة لهم بانتخابات ديمقراطية ومجلس نيابي جديد يحترم التعدّدية والتنوّع، ومن ثم الدستور الجديد وما يتضمّن من بنود تصبّ في هذا الاتجاه ليُحدّدوا مصير بقائهم في سوريا الجديدة: هل يَشطبون من قاموسهم كلمة «هجرة»، أو يُقبلون عليها، خصوصاً أنّ الآف طلبات الهجرة للمسيحيِّين السوريِّين مكدّسة في قنصليات الدول الغربية، فيما يسعى البطاركة والمطارنة إلى الحدّ ما أمكن من هذه النزعة اليائسة التي تتحكّم برعاياهم.

إنّ الزيارة التي قام بها الأمين العام لرئاسة الجمهورية السورية الدكتور ماهر الشرع، موفداً من رئيس الجمهورية أحمد الشرع، لتقديم التعازي بشهداء الهجوم الإجرامي الذي وقع في كنيسة مار إلياس الدويلعة في دمشق في 22 حزيران الماضي، كانت خطوة مرحّباً بها ويُفترض أن تتمّ غداة التفجير، وأنّ حصولها أفضل من عدم حصولها، لكنّها لا تكفي لنزع الخوف من قلوب الناس، وتبديد هواجسهم. والمطلوب ضمانات دستورية وتشريعات قانونية يستند إليها النظام الجديد في سوريا، ليشعر الجميع بأنّهم على طريق سلام مستدام يقود إلى الاستقرار المنشود. فلا تكون الإيجابية المفاجئة استجابة لتمنٍ أو طلب خارجي، كسحابة سرعان ما تزول. وإنّ إسرائيل العنصرية بطبيعة تركيبها تسعى من خلال «الترانسفير» والتضييق إلى تصفير الوجود الفلسطيني على أراضي دولتها المغتصبة والمحتلة من أجل أحادية تريدها، ولذلك لا يضيرها أن تقوم في جوارها بلدان ذات صبغة أحادية، وإذا تعذّر ذلك فبلدان منقسمة إلى فدراليات وكانتونات، تسير بالحدّ الأدنى من الإمكانات، فتبقى لها اليد العليا في إدارة شؤون المنطقة بدعم واضح من الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً والغرب عموماً، وإغضاء عربي لم يَعُد من الصعب تلمّسه. واذا كان وضع المسيحيِّين والشيعة والدروز في لبنان يختلف راهناً عمّا هو عليه الوضع في الدولة الجارة، فإنّ الاتصال الجغرافي والواقع الجيو-سياسي يجعل لبنان أكثر عرضة للعدوى السورية، وهذا الهاجس يستبدّ بأبناء هذه الطوائف، ولا سيما منهم المسيحيّون، لأنّهم منتشرون ديموغرافياً وعقارياً على امتداد الجغرافيا اللبنانية، ومن المتعذّر طمأنتهم بفدرالية تمتلك مقوّمات الثبات بعد الهجرات الداخلية التي تسبّبت بها الحروب فيه وعليه منذ العام 1975، بعكس مناطق وجود الشيعة والدروز المعروفة والمحدّدة. وإنّ السؤال المطروح هو: هل يمكن اللامركزية الإدارية الموسعة أن تشكّل حلاً؟ في الواقع إنّ الأقليات في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها لبنان، في حاجة إلى دساتير مدنية تحقق المواطنة قانوناً وشعوراً، وتساهم في نزع الهواجس، وتفتح باب المشاركة الوطنية في إدارة شؤون الدولة على قاعدة المساواة مع الأخذ بالنسب العددية للسكان. إنّ أقسى ما تعانيه الأقليات هو شعور أبنائها بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهذا ما يُفسّر انكفاءهم وعدم تفاعلهم الإيجابي مع محيطهم، ومَيلهم الدائم إلى الهجرة، في وطن لا يطمئنّون إلى مستقبلهم فيه.

الأشهر المقبلة هي محك المستقبل، والفاصلة بين مرحلة ومرحلة إذا ساعدت التطوّرات المتسارعة على ترسيم هوية سوريا الجديدة وتحديد معالمها. وإلّا، فإنّ الغموض سيبقى يلفّ المشهد الشرق أوسطي مع ما يحمل من مخاطر.

هذا هو الهدف من الإضاءة على هذا الملف، من دون أن تكون من وراء إثارته أي غاية سوى الحرص على التعدّد والتنوّع في المنطقة، والحفاظ على ثقافة الحياة المشتركة بين مكوّناتها، وذلك انسجاماً مع تاريخها الحضاري، وهي منبع الديانات السماوية، والفلسفات القديمة، وإحدى الركائز – الأساس للحضارة الإنسانية الممتدّة منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا.

شارك المقال

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *