خمس و خمسين سنة على ارتقاء جمال عبد الناصر

خمس و خمسين سنة على ارتقاء جمال عبد الناصر

المؤرخ و الكاتب السياسي د. حسن محمود قبيسي

كمؤرخ أكتب ،موصِفًا لا مصنفًا.
منطقتنا المعروفة اصطلاحًا ب «الشرق الأوسط » تعيش أسوأ حالاتها في التاريخ مذ قامت فيها ممالك وأمارات ودول مدن . ولم يشهد تاريخنا مثيلًا لها إلاحين ضعفت الدولة العباسية وتقاسمها الطامحون و الولاة . ففي مصر وصل اليهود إلى منصب الوزارة ومنهم يعقوب بن كلس وقد تولى وزارة الدولة في أوجها في عهد كافور الأخشيدي ، وهو يهودي بغدادي تولى منصب الوزارة في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله (975-996) والظاهر لإعزاز دين الله (-1036- 1021) وابنه المستنصر بالله 1036- 1094 وأمه السيدة رصد. وأمسك سعد التستري بشؤون الدولة بناءً على قرار وضمان من والدة المستنصر بالله الفاطمي ؛ فتحكموا بالبلاد واضطهدوا المسلمين؛ فعمت المظالم ، وانتشر الفساد ، فكان المسلم يُقتل أو يُسجن وتصادر أمواله بالظن والشبهة.

يفتقر العالم إلى كبار كمن عرفهم في النصف الثاني من القرن العشرين( ناصر- نهرو – خروتشوف- كاسترو…).
العالم يتلاعب بمصيره مجرم حرب ( ترامب ) احتكاري فاسد مدان، حصانته برئاسته ، يحتضن مثيله في الفساد والإجرام ، مدان وحصانته برئاسته لحكومة العدو الصهيوني، يتلاعب بمصير منطقة بأكملها بذريعة وعد تلمودي بإسرائيل كبرى ، وأطماعه تصل حتى إلى تركيا و الجمهورية الإسلامية في إيران . التقيا وما افترقا .
نقرأه – ترامب – يخاطب الحكام العرب و المسلمين بشعرالشاعر الحسن بن خاقان:
»يهود هذا الزمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم ومنهم المستشار والملك «
ولضعف الكيانات العربية وتناحرحكامها ؛ تسعى للرضى الأمريكي وترضى بالذل والاستسلام فتكتفي بالتنديد والادانة وتستغيث بالأمم المتحدة ومجلس الأمن متمسكة ب « كفى الله المؤمنين شر القتال .»

مصر
تتضح وتتأكد أهمية مصر بموقعها الاستراتيجي وطاقاتها و قدراتها ومقدراتها مع كل كبير يمسك بالسلطة فيها ، فتؤثر بمجريات الأمور داخلها وفي محيطها كما في زمن القائد المملوك سيف الدين قطز والمعز لدين الله الفاطمي وصلاح الدين الأيوبي ومحمد علي الألباني . وفي حاضرنا برزجمال عبد الناصر فوصل نفوذه إلى بقاع الأرض بتحرر مصرالاجتماعي و السياسي، وبدعمه حركات التحرر في العالم . واللافت أن بعد كل عظيم منهم أتى من أرتد ، وآخرهم كان أنور السادات بثورته المضادة .
عن مصر عبد الناصر وعصره نكتب . فخلاله قاد جمال عبد الناصر انقلابًا في مصر 1952 صار بمنجزاته التحررية والتحولات الاجتماعية ( الإصلاح الزراعي و الإجراءات الاشتراكية وإنماء مصر بالعلم و البحوث والتصنيع التي أقلقت العدو الصهيوني فقال رئيس حكومته السابق «بن غوريون » ضراوة صراعنا مع عبد الناصر سببه الأول إنماء مصر؛صار ثورة أسقطت مشروع إيزنهاور و حلف بغداد و الحلف الإسلامي قبل أن تُظّهرالأمبريالية الأمريكية نسخته الجديدة في طالبان والدواعش ومشتقاتهما .
وأفشلت الثورة بقيادة عبد الناصر في مسلسل حروب الصهاينة / العرب : العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الصهيوني على مصر عام 1956، وعدوان 67 19 . كانت إرادته « سنحرر أرضنا شبرًا شبرا ولو كان فوق كل شبر شهيد »؛ فكانت حرب الاستنزاف استلهامًا من مقولة الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل : « إن من يتهاون في حق من حقوق دينه وأمته ولو مرة واحدة يعش أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان».؛ وإيمانًا منه بأن «ما أوخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة » وبأن «الحق بغيرالقوة حق ضائع ».
وفيما قاد صديقه اللدود المشير الافتراضي عبد الحكيم عامر مراكز القوى التي ترعرعت بكنفه في ثورة مضادة، في صراع على النفوذ كبيدل عن الصراع على مظاهر السلطة ، حرص عبد الناصر على تعزيز الحريات الاجتماعية و السياسية والحياة الديمقراطية في مصر، بمواجهة أجهزة المخابرات الموروثة و المفعّلة (ذراع السلطة وحاميتها ) في حربها على الحركات المعارضة وقمعها لها؛ بالتحرر الاقتصادي بتحقيق الكفاية الانتاجية و العدالة التوزيعية والضمانات الاجتماعية .
وساند المعارضة في لبنان أبان ثورة 1958 لمنع كميل شمعون من تجديد ولايته لاستكمال تآمره على عروبة لبنان وحرية شعبه في رفض المشاريع البريطانية والأمريكية. وأوقف الصدامات بين الجيش اللبناني و منظمات المقاومة الفلسطينية (1969). كما أوقف المعارك بين الجيش الأردني والأخيرة ( أيلول 1970) .
ودعم حركات التحرر العربية وفي مقدمتها ثورات الجزائر والعراق ، ووقف مع الكويت بعدما عقد عبد الكريم قاسم حاكم العراق في 25 يونيو/حزيران 1961، مؤتمرًا صحافيًا في مقر وزارة الدفاع في بغداد، طالب فيه بـ «ضمّ الكويت رسميا إلى العراق» وإرسال قوات مصرية – كما بعض الدول العربية – للدفاع عنها ؛ فتراجع قاسم .
وساند ثورة اليمن بجزئيه الشمالي و الجنوبي، واحتضن المقاومة الفلسطينية وقضيتها .
والحركات الإسلامية الثورية باعتراف الإمام الخميني نفسه الذي أكد أنه لم يلق مساعدة إلا من عبد الناصر، وقد أمن الأخير تدريب شباب إيراني موال للثورة وأمد الحراك الثوري الإيراني بالمال ودعمه بالدبلوماسية والإعلام، وبكاء الإمام الخامنئي يوم وفاة عبد الناصر، مما يحملنا على تقدير أنه قد يكون في مواقف إيران المعادية للكيان الصهيوني وفاء لعبد الناصر ، كما إيمانها بعدالة القضية الفلسطينية وتحمل تبعاتها.
ونشرالدعوة الإسلامية في العالم وترجمة القرآن وأنشأ «إذاعة القران الكريم » ، ونشط لتعزيز الإسلام في مصر ( بناء ألف مسجد في القاهرة بما يفوق كل ما بُني فيها على مدى قرون) وإرسال البعثات الدعوية إلى أفريقيا و العالم ، و محاربة تزييف جوهرالإسلام بالدعوات و النشاطات المشبوهة .
ودعم حركات التحررالأفريقية فحفظت له شعوبها وناصرت القضايا العربية لاسيما في صراعنا مع العدو الصهيوني .
ما سبق أذن لم يكن عصراستبداد و هزائم كما يزعم افتراء وكرهًا المبغضون والكارهون والحاقدون والحاسدون و الجهلة والمتجاهلون و المرتبطون والمتورطون ؛ فحق لعبد الناصرمخاطبة المصرين والعرب مفتخرًا : « ارفع رأسك ياأخي فقد مضى عهد الاستعباد.».

مع خليفته المرتد أنور السادات عاد الاستعباد والاستبداد في مصر نظامًا للحكم فيها كما ما قبل الثورة .
طوى السادات صفحات الإنجازات التحررية و الاجتماعية ؛ فألغى المساواة والإصلاح الزراعي والثورة التصنيعية والقرارات الاشتراكية وكل المشاريع الإنمائية ومجانية التعليم و الطبابة ، فعم الفساد والرشاوي وحكم الأقارب و الأنسباء ، فكانت البطالة والعنوسة ،وسكن ناس المقابر ، وتعددت الأحزاب حتى الرجعية منها ، بعدما تخلص من الدائرة المقربة من عبد الناصر .
افترق عن الاتحاد السوفيتي الداعم الأول لمصر ووضع كل بيضه في السلة الأمريكية ، واستلهم ما أوحى له به كيسنغر. ثم كانت اتفاقيات كمب ديفيد الاستسلامية ، ففاوض العدو الصهيوني واعترف به وفك ارتباط مصربالأمة العريية ، وبررمضللًا الشعب المصري مستذكرًا شعر الشاعر الحسن بن خاقان:
»يا أهل مصر إني نصحت لكم تهوًدوا، قد تهود الفلك «
كان طبيعيًا رفض الشعب المصري للواقع الذي أضعف مصروحجّم وظيفتها ، فتزامن تحركه الرافض مع الاحتجاجات البرتقالية في الوطن العربي المدعومة أمريكيًا ، والتحق «الأخوان المسلمون » بالحراك مؤخرًا وتصدروه لكونهم الأكثر تنظيمًا والأشد تماسكًا بين التشكيلات السياسية ، فرشحوا منهم محمد مرسى العياط ( راسل رئيس وزراء العدو الصهيوني إيهود أولمرت بصفته «عزيزه» كما وصفه ) رئيسًا للجمهورية وارتكبوا فظائع ؛ فانقلب الجيش عليهم يوم 3/7/2013 تحت قيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي في 3/7/ 2013 وأطاحوا بمرسي .
أمام هذا الوضع العربي المتردي ؛ يصح الرهان على الجيش المصري الذي قام بقيادة القائد العسكري أحمد عرابي في فترة 1879-1882 ضد الخديوي توفيق لفساده و انحيازه للضباط الشراكسة في الجيش المصري، والتدخل الاجنبي في مصر وتصدى للاحتلال البريطاني سنة 1882، وقاد عبد الناصر ثورته على الملك فاروق ، وقاد عبد الفتاح السيسي انقلابه على مرسي للتخلص من فظائع «الأخوان المسلمون.».
على هذا الجيش، الرهان لعصرنة مصر و البلدان العربية  وتحرر شعوبها .

شارك المقال

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *