قصة اليوم بقلم الكاتب والمخرج وسيم الأدهمي
شياطين أم نادر
كانت (أمي) أم نادر، المرأة الطيبة ذات القلب الحنون، معروفة بحزمها ومبادئها الصارمة. لم تكن تحتمل مشهدًا يخدش الحياء أو يُظهر ما اعتبرته خروجا عن الأخلاق. كلما جلست العائلة أمام التلفاز وشاهدت مشهدا لعري أو راقصة تتمايل، كانت تصرخ بصوت مملوء بالحنق: “شيلو هالشياطين! ما فيكم تشوفوا شي مفيد؟” كان طلبها دائما واضحا ومباشرا، وكأنه أمر عسكري لا يقبل النقاش.
كبرنا مع هذه العبارة التي أصبحت جزءا من يومياتنا، وكأنها تحذير متكرر ضد ما هو غير أخلاقي. كنا نضحك أحيانا، ونراها تبالغ في ردة فعلها، خاصة أننا كنا أطفالا لا نفهم تماما ما يقلقها. بالنسبة لنا، كانت تلك المشاهد مجرد لحظات عابرة على الشاشة، لا تستحق كل هذا الغضب.
مع مرور الوقت، ومع انتشار التكنولوجيا وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، بدأنا نفهم كلماتها بطريقة مختلفة. أصبحت الشاشات ليست مجرد نافذة للترفيه، بل ساحة مفتوحة لكل شيء، الصالح والطالح. كلما تصفحنا هاتفنا، شعرنا وكأن العالم يغرق في دوامة من الصور والفيديوهات التي تُظهر عالما يعج بـ”الشياطين المتحركة”، كما وصفتها أم نادر.
لم يكن الأمر مقتصرا على العري أو التفاهة الفنية، بل امتد ليشمل كل جوانب الحياة. في السياسة، مثلا، أصبح الخطاب مليئا بالكذب والتضليل، وتحولت النقاشات إلى معارك رقمية هدفها ليس الحقيقة، بل سحق الخصم بأي وسيلة. كانت الشياطين هنا ترتدي أقنعة القادة والمحللين، تنشر الكراهية وتحرك الجموع نحو الفوضى.
حتى في الحياة الاجتماعية، أصبحت مواقع التواصل كابوسا. الناس يشاركون لحظات حياتهم وكأنها مسرحية مصممة لجذب الإعجاب، بينما الحقيقة غالبا ما تكون بعيدة تماما عما يظهر. أصبحنا نعيش في عالم من التصنع، حيث “الشياطين” تختبئ وراء فلاتر جميلة، تبيع الوهم وتزرع الغيرة والحسد بين الناس.
في أحد الأيام، بينما كنت أجلس مع أمي ونشاهد الأخبار، علقت قائلة: “شفت يا ابني؟ صاروا الشياطين يطلعوا من التلفزيون ويفوتوا بجيوبنا!” نظرت إليها وفهمت أنها كانت على حق طوال الوقت، لكنني أيضا أدركت أن الحل ليس في الهروب أو إغلاق الشاشات. المشكلة ليست في التكنولوجيا نفسها، بل في البشر الذين يستخدمونها.
ربما تكون أم نادر قد رأت الأمور من زاوية أخلاقية بحتة، لكنها كانت تشير إلى قضية أعمق: نحن نعيش في عصر من الانفلات القيمي، حيث أصبح الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف ضبابيا. الشياطين ليست فقط ما يظهر على الشاشات، بل هي تلك القرارات الصغيرة التي نتخذها يوميا: أن نغض الطرف عن الكذب، أن ننساق وراء التافه، أو أن نسمح للسلبيات بأن تسيطر على حياتنا.
وفي النهاية، أتساءل: هل يمكننا مواجهة هذه “الشياطين” بوعي؟ ربما الحل يكمن في العودة إلى المبادئ التي علمتنا إياها أم نادر، ولكن بأسلوب يناسب عصرنا. ليس برفض التكنولوجيا، بل باستخدامها لنشر الخير والحقيقة.