كلمة في الإبداع الشعري “بقلم الدكتور جهاد نعمان”
يذهب بعضهم إلى أن الشعر المنثور كلام عادي، يخلو من الوحدة الموسيقية والإيقاع الفني، وينأى عن عمود الشعر المرتكز على الوزن والقافية. فهل تجب المحافظة على القواعد التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي التي تمسّك بها فحول شعرائنا من أمثال المتنبي والبحتري وشوقي…؟
ويعلن بعض الكتّاب أن الشعر يجب أن يكون حرّا طليقا، لا يتقيّد بوزن، ولا يرتبط بقافية، فالمهم في عرفهم أن يعبّر الشاعر عما يريد أن يعبّر عنه من عواطف وخلجات وانفعالات، وأن يلبس المعنى الثوب اللفظي الذي يختاره له، من غير أن يعتمد على قاعدة عروضية، أو يسلك الطريق الذي سلكه تلاميذ الخليل، منذ صدر الإسلام إلى اليوم.
ما لم يتوفر في الشعر عنصر التجديد، فهو غث قديم بالٍ، يسمعه النائم فلا يستيقظ، ويسمعه الصاحي فينام. إن جادت أخيلته، ونبضت صوره بالحياة، فهو نثر فني. وإن لم يكن كذلك، فلك أن تسمّيه لغوا أو عبثا أو هذرا أو كلاما عاديا. وعندي أن معظم هذا «الشعر» يوأد يوم يولد.
نقرأ أو نسمع أحيانا كلمات حائرة متفككة، لا يربطها رابط من وزن، أو قافية، أو فكرة أو موسيقى. وهذا شأن بعض القيّمين على شأن عقول الأجيال وأخيلتهم… لست شاعرا أو ناظما إلّا في ما ندر. وعندي أن الشعر الحقيقي الرصين، يحتاج إلى مقومات لا غنى له عنها، أهمّها الروح الشاعرية المستقرّة في هيكل لفظي متكامل البنيان. ولكي يكون الهيكل متينا ثابتا، الأولى به أن يقوم على أساس متين راسخ يصونه من العبث والضياع، ويبقيه لمواكب الأجيال الآتية على جدّته وروائه. وهذا الأساس إنما هو الوزن الذي يضع كل كلمة في الموضع الملائم للمعنى، تماما كما يضع الجوهري الماهر، الحجرة الكريمة في المكان المُعدّ لها من العقد الثمين. وما يُقال عن الوزن، يُقال عن القافية. فاللقافية وقعها الموسيقي في اذن السامع ، وأثرها العميق في نفسه وحسّه. والمقطوعة الخالية من الوزن والقافية، قلّما تعتبر مقطوعة شعرية، لأنها لم تبنِ على الأساس الذي بُنيت عليه أكثرية الشعراء المتفوّقين من قدامى ومحدّثين.
لا أزعم أن الألفاظ المقفاة الموزونة هي الشعر بمعناه ومبناه، وأكرر أن للعاطفة والإلهام أعظم الأثر في القصيدة، فهما من هذه الناحية بمثابة الروح للجسد، الذي يجب أن يكون سليما قويا متناسق الأعضاء.
بقي أن نبيّن، أن الشعر المتجدّد على ندرته، هو الشعر الحافل بالمعاني الجديدة، وبالصور المبتكرة، ولو تنوّعت فيه التفعيلات وتعدّدت القوافي. وقديما استنبط شعراء الأندلس الموشحات، وتفننوا في سبك الألفاظ وإبداع المعاني وتنويع البحور. وقد استقبل العرب نتاجهم بالإكبار والإعجاب، لأن أولئك الشعراء, لم يخالفوا قواعد العروض، ولا محوا ما رسمه الأقدمون، بل نهجوا النهج اللغوي الفني السويّ، وطلعوا على الفصحى، بآيات بيّنات فيها ألوان زاهية خلّابة، من الوصف الصادق، والغزل الرقيق، والشوق المُلحّ، والحنين الفيّاض، والحماسة القومية، والفخر النابض بالعزّة والكرامة. فكانوا رواد التجديد الشائق المستحب، يوم كان العالم الغربي، تائها في أدغال الأمية والجهالة المطبقة.
فيا أيتها الوزارات (غير) المعنية، حافظي على تراثنا الأدبي الأصيل في إطار ما دعوناك إليه عبثا من ضرورة إدراج التنشئة الأدبية العامة في مناهجنا، بعيدا عن الانتفاخ والتلكؤ والارتهان والركاكة والاسفاف… نبحث عنك بلا جدوى!
أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه