تسعون عاماً من العطاء تحية لأرزة لبنان فيروز
تسعون عامًا من الأغنيات، تجثو فيروز على ركبتيها في بلاط الوداع الأخير، تهجع أغانيها الطروبة في حنجرة عاطبة رتّلت القصائد على مسارح الدهشة منذ الأزل، تسيل ملامحها بماء الرُمان المُشقق، تعكف عند جثمان نجلها “زياد” كصلاةِ غير مشروعة، تحفّه بوقار السيّدات اللواتي لم يُجفلهنَّ جزعٌ أو خوف، تؤدي الطقوس الأخيرة بسكينة الأشجار حين تتقصف أغصانها دون نزفٍ أو انكسار.
فيروز التي غنّت لكل شيئ، بصوتها الذي يُلين ظلافة الفرسان، ويجزُّ الحزن من حشاه. فيروز التي علّمت عنفوان الريح طريقة الإصغاء لصوتها البديع، وانثال من فمها جلال الأغنية الوارفة بأغصان الدلال.
الأنثى الرقراقة التي تفيض حسنًا ويشعُّ الفجر من أساريرها، ومن بحضرة صوتها يزدان لون الحياة إلى اخضرارِ الجِنان.
الأم التي تبنّت القصائد، والمسارح، والعُشاق، والحالمين، واختارت إلّا أن تكون ابنة الصمت المُقدس عند مفترق الصّراط!
مات نجلها “زياد رحباني”، حضر العالم بين يدي خشوعها، انتظرها الجميع كي تنزَّ نشيجها كالأمهات لحظة الانهيار، ترقّبت العدسات لحظة انحلال السيدة العجوز عن متانتها، رصدتها الأعين في العزاء علّ الدمع ينفلت فيسلك دحرجةً نحو القاع، لكنها كالمرآة تتحطّم لتتكاثر صورة البهاء في كل قطعة!
تحوّل الحضور من قاعة عزاء إلى صالة إعجاب، نسيَ العالم حالة الموت يا زياد وانشغل بواجب الانعكاس في مرايا فيروز الأم المُهابة!
أحببتُ الحزن أيّها العالم، فيروز بالأمس أسست استكانةً جليّة ساعة البقاء هادئة في أشد اللحظات انتكاسًا.
عند أكثر اللحظات التي يجثم خلالها الحزن هامدًا كالبراكين في الصدور، كالشجرة الراسخة والمنجل يقطف ثمارها اليانعة، دون تنهيدة تنفخ لُجّة الكمد عن ذاتها المغصوصة، صاغت فيروز بكل هذا الثبات أغنيتها الأخيرة في ألبوم الحياة، مارست حزنها بكبرياء السادة الحكماء دون انفلاق الضلوع.
حضرت المسارح منذ طراوة الشباب وباركت المسارح بقرع نعالها، غنت للعالمين شروح الحاجة المُلحّة عند الحب والوئام بصوتٍ يدخدخ الأفئدة، تنزّلت أناجيلها تتغشّى مشاعر المُتيّمة لوعاتهم بالعشق كأمزان السحاب الكريمة، ابتهلت قرابين السلام حين كان العالم العربي مشعل ثورة، وأيقظت طعم الحرية حين كانت العقول غافية في رخوة الضياع.
ظل صوتها الحب والثورة والنار والبَرَد والأمومة والاستهلال بالصباحات النديَّة وحين يهب النسيم وحين تهطل قطرة وتتملَّح دمعة في عيون الصبا.
أثثت للحزن لغة لا تعترف بالضعف، وأصغت للعمر كأنه مُعلّم يهب النعناع ساعة الاحتراق.
تسعون عامًا يا أماه ولا زال وجهكِ مثل سبيكة ذهب يضيئ مجرّة الشام، تسعون عامًا ولا زال ثغركِ آلة موسيقية لا تُبلى، تسعون عامًا وأخاديد وجهك تحشُّ الأسى كلما ناظرتها العيون، تسعون عامًا وفلول شعركِ منثالةً كغزلانٍ طريدة، لا شيب فيه ولا تقشُّف، يا وردةً توقّف فصل الربيع على كمالها وابتهل.
عظم الله أجركِ ماما فيروز، لا أحزن الله وجهًا كهذا ولا بلاه الكدر.
منقول من صفحة ناصر الهدياني